الثلاثاء، 10 مارس 2009

*من أحكام البسملة* [الحلقة الثانية]
مشروعية قراءة البسملة عند قراءة القرآن
{ معراج عالم محمد إنفاق التيمي }
فقد سبق الحديث في الحلقة السابقة عن فضل البسملة ومالها من أهمية وميزة، حيثُ إن الله افتتح بها كتابه الكريم الذي أنزله على نبيه الرحيم، وأمره في أول آية أنزلها عليه r بأن يقرأ باسمه الكريم حيث قال } اقرأ باسم ربك الذي خلق { [ العلق:1].
وقد اتفق العلماء على أن البسملة مشروعة عند كل أمر، سواء كان عبادة أو غيرها، لحديث " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع "(
[1]).
ولا شك في أن قراءة القرآن من أفضل القربات وأهم الأعمال التي تُقرِّب العباد إلى الله زلفى، فشرعت البسملة عند قراءته (
[2]) يدل عليه قوله تعالى } اقرأ باسم ربك الذي خلق { [ العلق:1]، وبين ذلك رسول الله r امتثالاً لأمره جل وعلا } وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم { [النحل:44]بأقواله وأفعاله وسيرته الحسنة الطيبة، كما روى أنس بن مالك t قال: بينا رسول الله r ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً ، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، قال:أنزلت عليّ آنفاً سورة،فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم إما أعطيناك الكوثر*فصل لربك وانحر*إن شانئك هو الأبتر"الحديث([3]).
وروى عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي صاحب رسول الله r قال لما نزلت } الم *غلبت الروم{ خرج رسول الله r يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون { [ الروم:1-3](
[4])
وعن أم هانيء بنت أبي طالب أن رسول الله r قال: فضل الله قريشاً بسبع خلال أني فيهم، وأن النبوة فيهم ، والحجابة، والسقاية فيهم ، وأن الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم ، وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن ، ثم تلاها رسول الله r : بسم الله الرحمن الرحيم } لإيلاف قريش* إيلافهم رحلة الشتاء والصيف* فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف { [ سورة القريش](
[5]).
وجه الدلالة من الأحاديث: دلت الأحاديث على هديه r وسيرته العطرة في قراءة القرآن حيثُ كان يبدأ بـ بسم الله الرحمن الرحيم.
والبسملة مشروعة قراءتها قبل السورة أي إذا أراد العبد المسلم أن يقرأ القرآن من بداية السورة ، فيشرع له أن يقرأ البسملة بعد التعوذ، لأنها آية مستقلة حيثُ كُتِبت ، على القول الراجح(
[6]) فهي تبع للقرآن المقصود لما فيها من ذكر الله، أنزل تبعاً لغيره، والمقصود غيره([7]).قال ابن عباس : " كان النبي r لا يعلم فصل السورتين حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم " ([8]).
فدل قول ابن عباس على أنها قرآن منزل ، لكنها غير مقصود نفسها، بل المقصود غيرها، قال شيخ الإسلام: " والمقصود أن يبتدأ القرآن بذكر اسم الله ، فهي أنزلت في أول السورة تبعاً لما بعدها لا لما قبلها...والقراء منهم من يفصل بها بين السور، ومنهم من لا يفصل لكون القرآن كله كلام الله، فلا يفصلون بها بين السورتين كمن سمي إذا أكل ثم أكل أنواعاً من الطعام، ومنهم من يسمي في أول كل سورة ، وهذا أحسن لمتابعته لخط المصحف، وهو بمنزلة رفع طعام ووضع طعام، فالتسمية عنده أفضل(
[9]).
أما التسمية في ابتداء التلاوة من أثناء السورة ، فقال به بعض العلماء حتى نقل الاتفاق على استحبابها(
[10])، ورده بعض العلماء([11])، وهو الصحيح والراجح لما يأتي:
1- لأن الله تعالى لم يأمرنا عند قراءة القرآن إلا أن نقول " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" (
[12])حيثُ قال} فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم{ [ النحل:91].
2- لم يثبت عن النبي r ولا من أصحابه البسملة في أثناء السورة.
3- ولأنها قرآن مستقل، وآية مستقلة حيثُ كتِبَتْ، وبعض آية من سورة النمل في قوله تعالى } إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم { [ النمل:30]، فقراءتها في أثناء السورة يلزم منها إضافة آية إلى مكان لا محل لها، وهذا لا يسوغ ولا يجوز، إلا إذا قصد ذكر الله عز وجل فقط لا غير، فالأمر واسع وسهل وميسور.والله تعالى أعلم.





[1] - عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الرهاوي في الأربعين ، وعزاه ابن ضويان في منار السبيل 1/5 إلى الخطيب والرهاوي، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (4222) و في الإرواء برقم (1)، وقال الشيخ محمد الصالح العثيمين في كتاب العلم ص(159)" هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي ، ومنهم من ضعفه ، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلاً " اهـ.
[2] - انظر: الذخيرة للقرافي1/284،نهاية المحتاج للرملي 1/168، الانتصارللكلوذاني2/47.
[3] - رواه مسلم برقم (892)و(5952).
[4] - رواه الترمذي برقم(3194) وقال: " هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد " وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
[5] - سورة القريش ورقمها في المصحف (106)
[6] - انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/439
[7] - المرجع السابق 22/350
[8] - رواه أبوداود 2/353مع شرحه العون ، والحاكم في المستدرك1/231وصححه ووافقه الذهبي.
[9] - انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/352باختصار.
[10] - انظر: الانتصار2/247، نهاية المحتاج للرملي1/168، شرح منهاج الطالبين للسيوطي 1/148.
[11] -انظر: الشرح الممتع للشيخ محمد الصالح العثيمين. 1/133
[12] -انظر: المرجع السابق نفسه.

السبت، 7 مارس 2009

أحـــــكــام الـــبــســــمـــــلــــــة

*من أحكام البسملة* [ الحلقة الأولى ]
فضائل البسملة
{ معراج عالم محمد إنفاق التيمي }
الحمد لله رب العالمين ، الممتن علينا ببعثة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، والمنزل عليه في أول آية من القرآن الكريم بأن يقرأ باسم ربه العظيم الذي خلق الخلق أجمعين، وأكد ذلك بافتتاح كتابه بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " وتأسى به أكثر المصنفين والمؤلفين والمعلمين ، وفي مقدمتهم رسول رب العالمين نبينا محمد الصادق المصدوق الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد ...
فإن التزام البسملة(
[1]) في الأعمال الحادثة والأفعال الصادرة سمة أهل الإيمان وشعار المتقين ، و مئنة من كمال إيمان المؤمنين الصادقين، حيثُ فيها تفويض الأمر بحذافيره إلى رب العالمين ، والاكتفاء به، والاعتماد والاتكال عليه ، وطلب العون والمساعدة، والمساندة والمعاونة، والتبرك وجميع أنواع الخير منه،كما أن الشيطان يقذف ويطرد بها دحوراً ويؤمن بها من وساوسه الضالة وهواجسه الضارة.
وتتجلى أهمية هذا الموضوع " أحكام البسملة " في كونه يتناول قرآنية البسملة وحكم قراءتها في الصلاة مع الجهر أو الإسرار بها ، فقد حظيت هذه المسألة اهتمام العلماء والفقهاء قديماً وحديثاً وكثرت المصنفات فيها.
قال الإمام النووي : " اعلم أن مسألة البسملة عظيمة مهمة ينبني عليها صحة الصلاة التي هي أعظم الأركان بعد التوحيد،ولهذا المحل الأعلى الذي ذكرته من وصفها اعتنى العلماء من المتقدمين والمتأخرين بشأنها ، وأكثروا التصانيف فيها مفردة "(
[2]).
وبالغ بعض العلماء في تعظيم هذه المسألة فعدها من مسائل الاعتقاد. قال الإمام الشوكاني: " وأكثر ما في المقام الاختلاف في مستحب أو مسنون ، فليس من الجهر وتركه يقدح في الصلاة ببطلان بالإجماع، فلا يُهوِلنّك تعظيم جماعة من العلماء بشأن هذه المسألة والخلاف فيها، ولقد بالغ بعضهم حتى عدها من مسائل الاعتقاد" (
[3]).
والبسملة لها فضائل جمة لا يمكن حصرها في هذه العجالة ، لكن أورد حسبما يقتضي المقام طرفاً من فضائلها وأسرارها. ويكفي في فضلها أن القرآن الكريم افتتح بـ " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين "، وندب الله رسوله r في أول آية أنزلها عليه إلى أن يقرأ باسمه تعالى آمراً له بذلك حيثُ قال } اقرأ باسم ربك الذي خلق {[ العلق:1].
قال الحافظ:" ويؤيده – أي البخاري في افتتاحه بالبسملة – أن أول شيء نزل من القرآن }اقرأ باسم ربك { فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها... ويؤيده أيضاً وقوع كتب رسول الله r إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية..."(
[4]) اهـ.
وقال تعالى } واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً { [ المزمل:8] وقال } قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى {[ الأعلى :14-15].
وقد بين لنا جل وعلا أن البسملة ليست بشيء محدث جديد بل هو أدب رباني قديم موجود في شرائع الأنبياء والمراسلين السابقين الأولين. فهذا نوح عليه السلام يقرأ البسملة حين ركوبه السفينة حيث قال } بسم الله مجريها ومرساها { [ هود:41] فوجد النجاة ، قال الفخر الرازي: " فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً من النجاة "(
[5]).
وهذا سليمان عليه السلام ينال مملكة الدنيا والآخرة لقوله } بسم الله الرحمن الرحيم {(
[6]).
والبسملة تكتسب الفضيلة من حيث إنها شرعت عند جميع الأفعال والأعمال التي يقوم بها الإنسان، رجاء حصول البركة بها وحفاظاً من الشيطان الرجيم وتجنباً منه ، ولطرده ولعنه بها قال r " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع "(
[7]).
قال الطبري: " إن الله – تعالى ذكره وتقدست أسماؤه – أدب نبيه محمداً r بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله وجعل ذلك لجميع خلقه سنة يستنون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها ، فقول القائل بسم الله الرحمن الرحيم إذا افتتح تالياً سورةً ينبيء عن أن مراده أقرأ باسم الله وكذلك سائر الأفعال "(
[8]).
والبسملة يدحر بها الشيطان ويطرد ، ويصغر ويذل، كما جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال: كنت رديف النبي r فعثرت دابته ، فقلت: تعس الشيطان ، فقال:" لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت، تعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول بقوتي صنعته ، وفي رواية: بقوتي صرعته، قل باسم الله ، فإنك إذا قلتَ، تصاغر حتى يكون مثل الذباب"(
[9] ).

وثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال، سمعتُ رسول الله r يقول :" إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق...فذكر الحديث بطوله، وفي آخره... ولا يثقل مع اسم الله شيء"(
[10]).
فكيف يغفل العبد المسلم المؤمن عن ذكر الله عز وجل في المهمات العظام والأمور الجسام ، وفي صباحه ومسائه، وقيامه وقعوده، ورقوده ونهوضه،وقد قال الله تعالى }ألا بذكر الله تطمئن القلوب {[ الرعد:28]وقال نبيه r " ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة { باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم} إلا لم يضره شيء"(
[11]).
وإن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فهو يلهي العبد ويُنسيه أن يذكر اسم الله،لكي يجد له منفذاً وممراً يتسلل منه ويشاركه في تناول طعامه وشرابه، ويستحل بذلك طعامه ويبيت عنده، وإذا ذكر العبد اسم الله لم يحصل له ذلك، روى حذيفة t قال كنا إذا حضرنا مع النبي r طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله r فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاماً فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله r بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله r " إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وأنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها "(
[12]).
ومما يدل على فضل بسم الله الرحمن الرحيم قول ابن عباس: " ما كنا نعلم انقضاء السورة إلا بنزول بسم الله الرحمن الرحيم في أول غيرها"(
[13]).
وفَذْلَـكة القول وصفوته أن البسملة لها فضل عظيم، ينبغي للعبد المؤمن الحرص على كسب ذلك الفضل، والرغبة في حصوله، اقتداء بسنة نبيه الكريم محمد r ، وتأسياً بسيرته العطرة، حيث شرعها عند جميع الأعمال والأفعال، من الأكل والشرب، والركوب و الرقود والنهوض، والدخول في المنزل والخروج منه، والدخول في المسجد والخروج منه، حتى عند الوقاع والجماع، حرزاً من ضرر الشيطان – إن قدر له ولد – وعند الغزو ومؤاجهة العدو، وغير ذلك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الــــحـــــواشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
[1] - مصدر من " بسمل " على وزن الرباعي المجرد أي إذا قال بسم الله، وهي من الأفعال التي نحتتها العرب من المركّبات، فتحفظ ولا يقاس عليها، ويقال : قد أكثرتَ من البسملة أي من قول بسم الله.قال الشاعر:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتُها * فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمِل
انظر: لسان العرب11/56 (بسمل)، وشذا العرف في فن الصرف للحملاوي ص (37).
[2] - المجموع للنووي 3/280
[3] - نيل الأوطار 2/237
[4] - فتح الباري 1/10-11
[5] - التفسير الكبير 1/169
[6] - المرجع نفسه
[7] - عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الرهاوي في الأربعين ، وعزاه ابن ضويان في منار السبيل 1/5 إلى الخطيب و الرهاوي ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (4222) و في الإرواء برقم (1)، وقال الشيخ محمد الصالح العثيمين في كتاب العلم ص(159)" هذا الحديث اختلف العلماء في صحته، فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي ، ومنهم من ضعفه ، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلاً " اهـ.
[8] - جامع البيان 1/ 78 ملخصاً.
[9] - أخرجه أبوداود 5/260 والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (554) و(555) والحاكم في المستدرك 4/ 292وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[10] - رواه الترمذي 4/133-134، وقال حسن غريب، والحاكم في المستدرك 1/6وصححه ووافقه الذهبي .
[11] - رواه الترمذي 5/133 وقال حديث حسن غريب صحيح، والحاكم في المستدرك 1/514 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم (2698).
[12] - رواه مسلم 13/188 برقم ( 5227 ).
[13] - رواه الحاكم وصححه 1/231ووافقه الذهبي، وعبد الرزاق في المصنف برقم (2617)، وقال السيوطي في الدر المنثور1/20 " أنه من قول ابن مسعود ، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان والواحدي عن ابن مسعود".