الأحد، 13 يونيو 2010

من ذكريات شيخنا العلامة عبد المحسن العباد- حفظه الله - عن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

هذا مقال لفضيلة شيخنا العلامة عبد المحسن بن حمد العباد البدر حفظه الله عنونه بـ" ذكرياتي عن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعد مرور نصف قرن على إنشائها" أحببتُ إيراده في هذه المدونة لما فيه من فوائد ومعلومات عن الجامعة،فيقول حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم

من ذكرياتي عن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة بعد مرور نصف قرن على إنشائها
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فهذه فقرات في ذكرياتي عن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعد مرور نصف قرن على إنشائها:
(1): بدأ عملي الوظيفي في 13/5/1379هـ بتعييني مدرساً في معهد بريدة العلمي، وكنت في تلك السنة في السنة النهائية من كلية الشريعة بالرياض، وقد اختارت إدارة الكليات والمعاهد العلمية التي سميت فيما بعد: ((جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)) بعض الطلاب للتدريس قبل التخرج للحاجة إلى ذلك مع إعطائهم الراتب الذي يعطاه المتخرج وقدره 975 ريالاً، وأظن هذا راتب المرتبة الخامسة من سلم الرواتب.
(2): في نهاية العام الدراسي عدت إلى الرياض لأداء الاختبار، فكنت الأول بحمد لله على دفعتي البالغ عددهم 80 خريجاً، وقد وافقت على العمل في التدريس قبل التخرج أملاً في السلامة من الترشيح للقضاء بعد التخرج، ولكن بعد خروج النتائج طُلب حضوري وعدد من زملائي إلى مقر رئاسة القضاة، وكان ذلك قبل إنشاء وزارة العدل، وأُخبرنا باختيارنا للعمل في القضاء وأن عملي مساعد رئيس محكمة الدمام، فذهبت في الحال وحدي إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رئيس القضاة رحمه الله وطلبت إعفائي من القضاء، وأني عملت في التدريس العام الماضي وأرغب في الاستمرار فيه، فوعدني بالنظر في ذلك وأن أراجعه بعد يومين، ولما راجعته أخبرني بموافقته على الإعفاء من القضاء على أن أعمل مدرساً في الجامعة الإسلامية في المدينة عند افتتاحها في العام القادم، فأجبت أنني على استعداد تام لهذا العمل، ولما لم تفتح الجامعة في عام (1380هـ) أسند إلي التدريس في معهد الرياض العلمي إلى حين افتتاحها.
(3): كُلِّف الشيخ محمد بن ناصر العبودي مدير معهد بريدة العلمي في عام 1380هـ بعمل الأمين العام للجامعة وجاء إلى الرياض لمراجعة الجهات المختصة إعداداً لافتتاحها، وقد تردد في ذلك العام أن يتولى إدارة الجامعة الشيخ محمد الحركان أو الشيخ عبد الله خياط رحمهما الله، وقد ذكر الشيخ عبد الله خياط رحمه الله في كتابه ((لمحات من الماضي)) (ص 235 ــ 236) صدور الموافقة السامية برقم (4649) في 30/3/1380هـ باختياره لرئاسة الجامعة الإسلامية وكان ذلك بترشيح الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، وذكر اعتذاره عن ذلك، وما جرى بينه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من مكاتبة حتى تم إعفاؤه.
وفي أوائل عام 1381هـ عيِّن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله نائباً لرئيس الجامعة وهو المباشر لأعمالها، ورئيسها الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله وكان يرجع إليه في بعض الأمور، وقد حضر إلى المدينة مرة لرئاسة المجلس الأعلى الاستشاري لها، وبعد وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم سنة 1389هـ عيّن رئيساً للجامعة واستمر فيها إلى أن عيّن سنة 1395هـ رئيساً لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكانت مدة إدارته للجامعة أربع عشرة سنة.
(4): تم تأسيس الجامعة في عام 1381هـ بأمر من الملك سعود رحمه الله، وقد خصص لها في ذلك العام ميزانية قدرها ثلاثة ملايين ريال، وكان تأسيسها في المدينة لاستقدام أبناء المسلمين لتدريسهم وتفقيههم في دينهم ليعودوا إلى بلادهم بعد تخرجهم دعاة إلى الحق والهدى، كما قال الله عز وجل:{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.
(5): لأهمية الجامعة عند الدولة كانت مؤسسة مستقلة مرتبطة برئاسة مجلس الوزراء، واستمرت على ذلك إلى أكثر من عشرين سنة عندما صدر نظام موحد للجامعات فصارت كغيرها من الجامعات تابعة لوزارة التعليم العالي، وفي نظامها الذي صدر في عام 1386هـ : ((جلالة الملك هو الرئيس الأعلى للجامعة))، وفي نظامها الذي صدر في عام 1395هـ: ((يتم اختيار الرئيس الأعلى للجامعة بأمر ملكي))، وبناء على ذلك أصدر الملك خالد رحمه الله أمراً بتعيين صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء رحمه الله رئيساً أعلى للجامعة، وكان يحضر للمدينة أحياناً لرئاسة المجلس الأعلى وينيب عنه في حال عدم حضوره سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وفي هذا النظام يشارك في عضوية المجلس الأعلى عشرة أعضاء من خارج المملكة يمثلون مختلف المناطق الإسلامية، ويصدر أمر ملكي بتعيينهم لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بناء على اقتراح رئيس الجامعة.
(6): كان في الجامعة عام افتتاحها كلية واحدة هي كلية الشريعة ومعهد ثانوي، وقد بدأت الدراسة فيها في يوم الأحد الموافق الثاني من جمادى الآخرة عام 1381هـ، وكان عدد طلاب الكلية خمسة وثمانين طالباً وطلاب المعهد الثانوي مائة وواحداً وسبعين طالباً.
(7): وصلت إلى المدينة في 29/4/1381هـ وعيِّنت مدرساً في الجامعة في المرتبة الثالثة راتبها 1400 ريال، وكان سلَّم الرواتب آنذاك عكس السلم في الوقت الحاضر كلما قل رقم المرتبة كثر راتبها، وكنت بحمد الله أول من ألقى درساً في كلية الشريعة في اليوم الذي بدأت فيه الدراسة، ومن الذين درَّسوا فيها عام افتتاحها شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ عطية محمد سالم رحمهما الله.
وكم كان فرحي عظيما عندما سمعت بتعيين الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في إدارة الجامعة؛ إذ يسر الله لي صحبة هذا الرجل الفاضل العظيم أربعة عشر عاماً، وقد اختارني رحمه الله عضواً في مجلس الجامعة طيلة هذه المدة.
(8): زار الملك فيصل رحمه الله الجامعة ثلاث مرات، الأولى في عام 1382هـ، والأخيرة في مطلع عام 1393هـ، وكان في زيارته يزور بعض الفصول الدراسية، وقد حضر لي في الزيارة الأولى درساً في مادة التوحيد، وفي الأخيرة درساً في مادة الفقه، والزيارة الثالثة في عام 1384هـ، وارتجل في الحفل الذي أقامته الجامعة في هذه المناسبة كلمة عظيمة، وألقيتُ بين يديه كلمة المدرسين، وقد أثبتُ الكلمتين في رسالة: ((عالم جهبذ وملك فذ: (الشيخ محمد بن إبراهيم والملك فيصل رحمهما الله))) طبعت في عام 1402هـ، وطبعت ضمن مجموع كتبي ورسائلي (6/425 ــ 446) في عام 1428هـ.
(9): عيِّنت نائباً لرئيس الجامعة بترشيح من الشيخ عبد العزيز رحمه الله وموافقة الملك فيصل رحمه الله، وصدر بذلك قرار مجلس الوزراء في 30/7/1393هـ، وكنت المسئول الثاني في الجامعة إلى حين انتقال الشيخ عبد العزيز إلى الرياض في أوائل شوال عام 1395هـ، وبعد ذلك كنت المسئول الأول إلى شوال سنة 1399هـ إذ أُعفيت من العمل بطلب مني لما طرأ على بصري من ضعف لكثرة النظر في أوراق الجامعة، وكنت قبل عملي في نيابة الجامعة أقود السيارة مدة عشر سنوات.
(10): قمت بحمد الله بالتدريس في الجامعة حتى الآن مدة خمسين سنة كملت في يوم الأحد الموافق الثاني من جمادى الآخرة هذا العام 1431هـ، وفي السنوات الست التي كنت فيها مسئولاً في الجامعة لم أتخلَّ عن إلقاء محاضرتين كل أسبوع في كلية الشريعة، وتم لي أيضاً بحمد الله وفضله في هذا الشهر إكمال تدريس كتب الحديث الستة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان البدء في تدريسها في مطلع المحرم 1406هـ، ابتداءً بصحيح مسلم ثم صحيح البخاري ثم سنن النسائي ثم سنن أبي داود ثم جامع الترمذي ثم سنن ابن ماجه الذي تم الانتهاء منه مساء السبت 15/6/1431هـ.
(11): كليات الجامعة خلال نصف هذا القرن خمس، وهي كلية الشريعة التي أُنشئت عام افتتاح الجامعة، وكلية الدعوة وأصول الدين افتتحت في عام 1386هـ، وكلية القرآن الكريم افتتحت في عام 1394هـ، وكلية اللغة العربية افتتحت في عام 1395هـ، وكلية الحديث افتتحت في عام 1396هـ، وعند افتتاح كلية القرآن الكريم طُلب من مدرس مادة القرآن في المعهد الثانوي التزويد بأسماء الذين يحفظون القرآن كاملاً لتوجيههم للدراسة في هذه الكلية، ولكونها جديدة لم يرغب الطلبة في الدراسة فيها، وبعد بدء الدراسة فيها بفترة حضر عندي في المكتب ــ وكنت مسئولاً في الجامعة ــ طلابها يطلبون إعفاءهم وتحويلهم إلى كليات أخرى، قلت لهم: أتدرون لماذا جئتم؟ إنكم جئتم تطالبون بإغلاق كلية القرآن! وشجعتهم على الاستمرار ووعدتهم بالعمل على تمييز طلبة كلية القرآن على غيرهم من طلاب الكليات الأخرى، وذلك بتخصيص مكافأة زائدة على مكافأة طلاب الكليات الأخرى، وعند إعداد جدول الأعمال لدورة المجلس الأعلى التي رأسها سمو الأمير فهد رحمه الله جُعل موضوع مكافأة طلبة كلية القرآن أول موضوع في الجدول، فتمت دراسته بحضوره وخُصص لهم مبلغ يكون زائداً على مكافأة غيرهم من الطلاب، وأناب رحمه الله سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في رئاسة بقية الجلسات.
(12): تولى إدارة الجامعة خلال نصف هذا القرن ستة، هم: شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، ثم صاحب هذه الذكريات، ثم الدكتور عبد الله الزايد، ثم الدكتور عبد الله بن صالح العبيد، ثم الدكتور صالح بن عبد الله العبود، ثم الدكتور محمد بن علي العقلا.
(13): في عام 1381هـ ــ وهو العام الذي أنشئت فيه الجامعة الإسلامية بالمدينة ــ أصدر جمال عبد الناصر قرارا بتطوير الأزهر، وذلك بإحداث كليات دنيوية زاحمت كلياته المتخصصة وهي الشريعة وأصول الدين واللغة العربية، وترتب على ذلك إضعاف الأزهر شكلاً ومضموناً، أما الشكل فإن الزي الذي كان عليه الأزهريون في كلياته المتخصصة بدأ يتلاشى حتى لم يبق عليه إلا من بقي من المشايخ القدامى، وأما المضمون فإن القدرة العلمية لكلياته المتخصصة ضعفت عما كانت عليه من قبل.
وبعد مضي أكثر من عشرين سنة على تأسيس الجامعة الإسلامية سعى أحد المسئولين فيها إلى إنشاء كليات دنيوية فيها، ولكن لحسن حظه أن الملك فهد رحمه الله لم يوافق على ذلك، فقد قرر مجلس الوزراء أن تبقى الجامعة الإسلامية مقتصرة على تخصصها وأعلن ذلك في أخبار مجلس الوزراء عام 1402هـ، واستمرت الجامعة مقتصرة على كلياتها الخمس الشرعية إلى تمام نصف قرن على تأسيسها، وفي الآونة الأخيرة سعت الجامعة في عهدها الجديد لإنشاء كليات دنيوية يحصل بها مزاحمة تخصصها ويحصل بها إضعافها كما حصل للأزهر قبل نصف قرن، وقد كتبت إلى خادم الحرمين الملك عبد الله حفظه الله وإلى وزير التعليم العالي وإلى المسئول في الجامعة في ذلك، ومما قلته فيما كتبته لخادم الحرمين حفظه الله في 1/1/1430هـ: ((وقد مضى على إنشاء الجامعة الإسلامية نصف قرن تقريباً ظلت فيها الجامعة محافظة على تخصصها، والمأمول من مقامكم الكريم التوجيه بإبقاء الجامعة على تخصصها دون مزاحمة وأن يسلم عهدكم من إقرار ما فيه إضعاف للجامعة كما سلمت في عهود أسلافكم من ذلك، وألا يحصل للجامعة في عهدكم نظير ما حصل للأزهر في عهد جمال عبد الناصر)).
وفي أثناء إعداد هذه الذكريات فاجأت الصحف المحلية في 30/5/1431هـ (أي: عند إتمام نصف قرن على إنشائها إلا يوماً واحداً فقط) بنشر الموافقة السامية كما في صحيفة الرياض على قرارات مجلس التعليم العالي، وفي أولها افتتاح ثلاث كليات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وهي: كلية العلوم، وكلية الحاسب الآلي ونظم المعلومات، وكلية الهندسة، ولا يزال الأمل عظيماً في خادم الحرمين حفظه الله بالتوجيه بإبقاء الجامعة على تخصصها وصرف النظر عن كل ما من شأنه إضعافها وخروجها عن مسارها، ومما لا شك فيه أن فائدة الحاسب الآلي في الوصول إلى المعلومات الشرعية عظيمة، ويمكن تحقيق هذه الفائدة بإيجاد دورات في الحاسب الآلي يتمكن بها طلاب الجامعة من الوصول إلى بغيتهم في مجال اختصاصهم، وأما دراسة العلوم والهندسة فإن ذلك وإن كان فيه فائدة دنيوية فإنه لا يتفق مع الأهداف التي أُنشئت من أجلها الجامعة، وهي: تفقيه أبناء المسلمين في الدين ليعودوا إلى بلادهم دعاة إلى الحق والهدى، يبصرون غيرهم في أمور دينهم، وهذه الكليات تعلِّم المهن والحرف التي لا تتفق مع ما أُسست الجامعة من أجله، وهذا النوع من الدراسة موجود في بلاد كثيرة، ويغني عن افتتاح هذه الكليات في الجامعة أن يوجَّه الطلاب السعوديون إلى جامعات المملكة التي تشتمل على مثل هذه الكليات، وقد زاد عددها على عشرين جامعة، وأما غير السعوديين الذين يُرغَب تدريسهم في هذه التخصصات فإن المناسب تخصيص منح دراسية لهم في تلك الجامعات الكثيرة في المملكة، وعندما كنت مسئولاً في الجامعة قبل ثلاثين سنة زار الجامعة الدكتور صوفي أبو طالب مدير جامعة القاهرة فسألني قائلاً: لماذا لا تفتح الجامعة كلية طب؟ فقلت: ولماذا لا تفتح جامعة القاهرة كلية شريعة؟ فقال: إن الأزهر كفانا ذلك، فقلت: وقد كفتنا الجامعات المتخصصة في الطب وغيره في المملكة ذلك.
ومن أغرب وأعجب ما جاء في قرارات مجلس التعليم العالي: ((ووافق على إنشاء قسم الشريعة بكلية القانون بجامعة الجوف وتعديل اسم الكلية إلى كلية الشريعة والقانون))؛ إذ كيف يتم في بلاد الحرمين إنشاء كلية للقانون ثم إنشاء قسم فيها للشريعة مع تعديل اسمها إلى كلية الشريعة والقانون؟! وبلاد الحرمين نزل بها الوحي وظهر فيها الإسلام والدولة السعودية قامت على تحكيم الشريعة، والقوانين الوضعية مخالفة للشريعة، فلماذا يُنشأ كلية للقانون ثم يُلحق بها قسم للشريعة وتسمى كلية الشريعة والقانون؟! وهذه التسمية للكلية تعادل اسم (كلية الحق والباطل)، والفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة والقوانين الوضعية الوضيعة كالفرق بين الخالق والمخلوق؛ لأن الشريعة وحي من الخالق والقانون من عمل المخلوقين، والشريعة كاملة لأنها من عند الله، والقوانين ناقصة لأنها من وضع الناقصين، وقد كنا نتعجب من وجود كليات باسم الشريعة والقانون في غير هذه البلاد، فابتلينا بذلك كما جاء في قرارات مجلس التعليم العالي، وعسى الله أن يخلِّص هذه البلاد من هذا النوع من الدراسة والتسمية بمثل هذه التسمية ومن كل ضرر يعود على هذه البلاد حكومة وشعباً.
(14): لقي سعي الجامعة في عهدها الجديد إلى إنشاء كليات دنيوية قبولاً شديداً واهتماماً بالغاً من التغريبيين والصحفيين بل والصحفيات اللاتي ظهر ذكرهن قبل سنوات قليلة وشاركن الصحفيين في مهنة الصحافة، فأبدى الجميع إعجابهم بهذا الانفتاح للجامعة بهذا السعي لإنشاء الكليات الدنيوية وكذا اتجاهها إلى الابتعاث إلى الدول الغربية وغيرها، ولاسيما للتخصص في اللغة العربية وفي تاريخ المملكة! ولا ينتهي عجب العاقل من كون العرب السعوديين يُبتعثون للغرب للتخصص بلغة العرب ولكتابة تاريخ المملكة هناك! ونظير تخصص السعوديين باللغة العربية وتاريخ المملكة في بريطانيا مثلاً ما لو جاء بريطانيون إلى المملكة للتخصص باللغة الإنجليزية وتاريخ بريطانيا!! فإن كلاً منهما يُتعجب منه إلا أن الأول يُسعى إلى حصوله والثاني لا يُفكَّر في حصوله.
(15): من الانفتاح الجديد للجامعة حضور صحفيات إلى المؤتمر الذي عقدته الجامعة عن الإرهاب قريباً في الشهر الماضي في مكان خاص بالنساء، وقيام صحفية بمحاورة المسئول في الجامعة على هامش المؤتمر في أمور أبرزت فيها إعجابها الشديد بانفتاح الجامعة ــ وهو الانفتاح الذي تتعامل فيه الجامعة مع مختلف (الأطياف على حد تعبيرهم) حتى الصحفيات ــ ونُشر حوارها في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 10/4/2010م، وقد أبديت في رسالة إلى المسئول في الجامعة ملاحظاتي على ما جاء في الحوار حول الجامعة وحول أمور شرعية، ولا أدري لماذا تم حوار هذه الصحفية مع الخليفة الخامس للشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله؟! حتى وإن كان عن طريق شبكة المعلومات كما فهمت من المسئول ولماذا لم يكن مع صحفي؟! وما ذاك إلا من مكر المستغربين والتغريبيين للمؤسسات الشرعية والقائمين عليها، وفي التمكين من مثل هذا الحوار إعانة الفتيات على الانفلات الذي بدأ في الآونة الأخيرة في هذه البلاد والذي لا ينبغي أن يحصل من مسئول في جامعة إسلامية؛ فإن مزاولة المرأة مهنة الصحافة لا يتأتى غالباً إلا بالسفور والاختلاط المشين بالرجال والسفر بدون محرم، وكل ذلك مخالف لهدي الإسلام.
وجاء في الحوار إتاحة الجامعة للفتيات الدراسة في الكليات الدنيوية إذا تم إنشاؤها في الجامعة، فهل تمكَّن الفتيات في هذه الجامعة الإسلامية من دراسة الهندسة ليفتحن مكاتب هندسية يستقبلن فيها الرجال ويقمن بالإشراف على إنشاء العمارات وغير ذلك مما فيه سفورهن واختلاطهن بالرجال؟!
وجاء في الحوار أيضاً اتجاه الجامعة عند إنشاء كلية طب ومستشفى جامعي إلى الاستفادة من خبرات وكفاءات أجنبية من غير الديانة الإسلامية،وأنه سيكون للكليات الجديدة مقر آخر خارج حدود الحرم، ومن المعلوم أن البنيان في المدينة إذا امتد خارج حدود الحرم فإنه يدخل تحت اسم المدينة وإن لم يكن داخلاً في الحرم، وهذا التفكير بهذا الاتجاه من الغريب العجيب؛ إذ كيف يُعقل أن تجلب جامعة إسلامية إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من لا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم؟! وهذا من زيادة مفاسد إنشاء الكليات الدنيوية في الجامعة على ما فيه إضعافها ومزاحمة اختصاصها.
(16): جاء في حوار الصحفية مع مسئول الجامعة أن الجامعة في عهدها الجديد أُحييت بعد ممات ونُفخ فيها الروح من جديد، وهذه عبارات متناهية في إعجاب هذه الصحفية بانفتاح الجامعة، يدخل تحت هذا الموت المزعوم أحسن فترة مرت بها الجامعة، وهي فترة إدارة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله لها، وكانت تلك الفترة فترة شبابها وقوتها ونشاطها في مجال اختصاصها تعليماً ودعوةً ووقاراً وهيبةً، وبعد تعييني نائباً لرئيسها الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بفترة مررت عليه رحمه الله في منزله قبل ذهابي إلى الجامعة، وكان الشيخ إبراهيم الحصين رحمه الله يقرأ عليه المعاملات المتنوعة في مصالح المسلمين فقال لي: ((رأيت البارحة أنني أقود بكرة وأنت تسوقها، وقد أوَّلت هذه البكرة بالجامعة الإسلامية))، والبكرة هي الشابة الفتية من الإبل، وقد سقت هذه البكرة وراءه رحمه الله مدة سنتين، وبعد انتقاله عن الجامعة قدتها أربع سنوات كاملة، وأما حياة الجامعة الجديدة التي زعمتها الصحفية في المدة التي بدأ فيها إضعاف الجامعة في مجال اختصاصها فهي في الحقيقة فترة شيخوخة وهرم وهي مما يُعزَّى عليه، وقد عايشت هذه الجامعة وأدركت في شبابي شبابها وقوتها، ثم أدركت في شيخوختي هرمها وضعفها، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإنه ليحزنني ويؤلمني كثيراً أن أرى جامعة أُسست على التقوى من أول يوم وتولى غراسها الشيخان الجليلان محمد بن إبراهيم وعبد العزيز بن باز رحمهما الله يؤول أمرها بعد نصف قرن على إنشائها إلى أن تكون في مهب الريح؛ فتعصف بها الأعاصير وتكون محل إعجاب المستغربين والتغريبيين والصحفيين بل وحتى الصحفيات اللاتي لا وجود لهن قبل عدة سنوات.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق كل من له سلطة على الجامعة وعلى رأس الجميع خادم الحرمين حفظه الله للعمل على إبقائها قوية منيعة سالمة من الضعف والإضعاف.
ومن المناسب في هذه المناسبة أن أذكر شيئاً من الأعمال التي حصلت في الجامعة في فترة من فترات موتها المزعوم، وهي مدة ست سنوات كنت مسئولاً فيها في الجامعة مع الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وبعده:
1): افتُتح قسم الدراسات العليا في الجامعة لمنح درجتي الماجستير والدكتوراه.
2): افتُتحت كليات القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية.
3): أُنشئت مطابع الجامعة.
4): طُبع في كل سنة من السنوات الست دليل للجامعة يحتوي على ذكر المعلومات المختلفة عن مناهجها ومدرسيها وطلابها وخرِّيجيها وأنشطتها وغير ذلك.
5): أُلقي في قاعة المحاضرات تسعون محاضرة تخدم رسالة الجامعة بواقع خمس عشرة محاضرة في كل سنة، طُبعت في ستة أجزاء.
6): طُبع كتاب: ((خرِّيجو الجامعة من عام 1384هـ إلى عام 1396)).
7): أُعد مخطط علمي (أكاديمي) للجامعة ينتهي فيه عدد طلابها إلى عشرين ألف طالب قام بإعداده مؤسسة وأُنفق عليه مليونان ونصف مليون ريال.
8): عُقد المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة في 24 ــ 29 صفر 1397هـ حضره أعداد كبيرة ينتمون إلى سبعين دولة، واستُصدرت الموافقة السامية على عقد المؤتمر الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، ومؤتمر مكافحة المخدرات والمسكرات وتمَّ عقدهما فيما بعد.
9): طُبع عن طريق مركز الدعوة في الجامعة الذي أُطلق عليه فيما بعد عمادة خدمة المجتمع رسائل كثيرة للدعوة في داخل البلاد وخارجها، وطبعت الجامعة في المغرب عن طريق الملحق الديني الأستاذ محمد بن عبد السلام رحمه الله أربع رسائل طبع من كلٍّ منها خمسون ألف نسخة تم توزيعها في المغرب والجزائر، وذلك إثر فَقْد كمية من كتاب: ((شرح العقيدة الواسطية)) للهراس مرسلة إلى الدكتور محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله، فطبعت الجامعة هذه الكمية من هذا الكتاب وغيره في المغرب.
10): اُنتدب بعض المدرسين في الجامعة إلى بعض الجهات التي توجد فيها المخطوطات خارج المملكة لتصويرها وإيداعها في قسم المخطوطات التابع للمكتبة المركزية في الجامعة، وأُحضر منها أعداد كبيرة استفاد منها الطلاب والباحثون، ومما هو جدير بالذكر أنه يوجد في المكتبة المحمودية في المدينة نسخة خطية مسندة لكتاب: ((المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية)) لابن حجر رحمه الله أرادت الجامعة تصويرها فلم يمكن ذلك لتكسر أوراقها من البلى، وعند ذهاب بعض المدرسين لتصوير المخطوطات في الهند وجدوا نسخة منقولة من هذه النسخة في عام 1351هـ محفوظة في المكتبة العمرية بجامعة دار السلام بعمر آباد مدراس، فأحضروا صورة عنها إلى قسم المخطوطات في الجامعة.
وقدوتي فيما ذكرته ــ هنا بمناسبة الحياة والممات للجامعة في حوار الصحفية ــ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال للأنصار في غزوة حنين: ((يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟!)) من حديث رواه البخاري (4330) ومسلم (2446) وذكر الحافظ ابن حجرفي الفتح (8/52) من فوائد هذا الحديث ((إقامة الحجة على الخصم وإفحامه بالحق عند الحاجة إليه))، وقال ابن دقيق العيد في شرح هذا الحديث في كتابه إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (3/309): ((وفي الحديث دليل على إقامة الحجة عند الحاجة إليها على الخصم)).
وقد أوصيتُ في عام 1418هـ، أن تكون مكتبتي الخاصة ضمن محتويات المكتبة المركزية بالجامعة وتجعل في موضع خاص بها.
وإن مما يؤسف له أن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قد أصيبت بمثل ما أصيبت به الجامعة الإسلامية، وهي جامعة عريقة في هذه البلاد تخرّج أول فوج منها عام 1376هـ، ومنهم الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله، والغالبية العظمى من القضاة والمشتغلين بالعلم في هذه البلاد هم من خريجي هذه الجامعة.
وكل راع مسئول عما استرعاه الله عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته)) الحديث رواه البخاري (893) ومسلم (4742).
وأسأل الله عز وجل أن يوفق كل مسئول في هذه البلاد ــ عظمت مسؤوليته أو صغرت ــ وعلى رأس الجميع خادم الحرمين الملك عبد الله حفظه الله للقيام بمسئوليته على الوجه الذي يرضي الله عز وجل وينفع عباده وتبرأ به الذمة إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
20/6/1431هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق